رواية صبرت عليها كاتبتها كثيراً كصبر ركوة القهوة، الصحفية والناشطة سارة الصراف حفيدة الراحلين الأحمدين العالم أحمد سوسة والأديب أحمد حامد الصراف، حين أهدتنا روايتها الأولى “سمعتُ كلّ شيء” التي استغرقت 14عاماً من الكتابة وجاءت على شكل مذكرات.
العمل ليس رواية خالصة أو سيرة حياة ثابتة بل هي رواية سيرة ذاتيّةٍ، أو ما يطلقُ على هكذا جنس أدبي مصطلح “سيراويّة”، وهو ما يقصد به العمل عندما يكون خلطة من سيرةٍ ذاتيّةٍ حيث اعتمدت الكاتبة على أجزاء من حياتها مطعمة بخيال رواية، وغابت الأسماء الحقيقية واستحدثت شخوص وغابت أخرى وبقى اسم المؤلِّفة على الغلاف فقط، تغلب على الرواية الواقعية في المتن الروائي.
تقدم الصراف عملها الأول بثقة الضليع والمتمرس وهي تضع بين يدي القارئ كتاباً ضخمًا بـ ٤٠٣ صفحات بالحجم الكبير. جاء الإهداء خالصاً للوالدة والجدة رحمهما الله وغاب أي اسم ذكوري.
الكتاب غني في محتواه، أنيق في غلافه تتوسده صورة مختارة من أرشيف الصحفي الكاتب الأستاذ سعد الزبيدي تمثل مدرستها مدرسة نجيب باشا الابتدائية في بغداد شارع المغرب العتيدة بتأريخها. الرواية مكتوبة بأسلوب مذكرات شهرية وثقت فيها أحداث ستة أعوام بدأتها في أغسطس 1982 وانتهت في أغسطس 1988، يوم انتهت الحرب العراقية الايرانية.
يدخل القارئ الرواية بسلاسة بلا هذر أو مذر، ليجد نفسه بعد صفحة أو صفحتين مشاركاً فيها بذكرياته أيضاً، كأنه يشاهد مسلسل تلفازي. أبدعت الصراف في تأثيث الرواية من أمكنة وشخوص وتوزيع أدوار، أول ما تقابله بطلة الرواية الطفلة عشتار الساكنة في دار عمره ستون عاماً في شارع طه مع الجدة فخرية الوطن الذي احتضنها بعد ان عادوا بها من مدينة سامارا الروسية حين فقدت والديها بحادث سيارة، وتولت عائلة صديقة إعادتها لبغداد. اختارت لها الكاتبة اسم الآلهة الرافدينية دليلًا على انتماء لجذورها العراقية الأصيلة وإضفاء سمة الثبات والقوة وهي تطرح معاناة اليتم الذي واجهته كطفلة في الرواية.
هاجس فقدان الأحبة هو حقيقة عاشتها الكاتبة وهي بعمر الصبا عند استشهاد والدتها الدكتورة عالية سوسة رحمها الله في تفجير مبنى الامم المتحدة في بغداد في عام 2003.
الحضور النسائي طاغٍ في العمل الروائي من شخصية الجدة فخرية صندوق الحكمة التي تحرص على قبلاتها الصباحية مع صويحباتها وفناجين القوة التي تدار عليهم وسط سحب دخان سكائرهم وأحاديثهم، فطومة المرأة الجبلية التي قدمت من بعقوبة لتعمل في دار الجدة، أم سحر الثمانينية ذات الحضور الأرستقراطي التي فقدت أحفادها نتيجة قصف صاروخي.
الشابة عايدة التي ترملت مبكراً تجرجر طفلها وتدخل بالصدفة تجربة حب تيقنت حينها أنّ سنوات زواجها انقضت بمشاعر ألفة فقط وبين الألفة والحب بون شاسع، ربحت الحب وخسرت ابنها. الخالة مودة الطبيبة ذات الشخصية المتفردة قوةً حيث لا حب ولا ألفة، الخالة نداء التي اتخذت دور الأم قبل وقتها، إيمان التي لم يفك شيفرة نفسيتها أحد لذا بدت شخصية تطفو غاضبة على صفحات الرواية، الخالة افتخار وانكسارها حين توجه قلب زوجها الى مرفأ اخر.
تأتي أدوار الرجال لاحقاً، أما الجد فكهل أتعبته السنون وأغلقت عشتار قلبها عليه بسبب غياب لحضور الوالد لرحيله المبكر، أو مشاعر بدأت باردة ثم اكتسبت دفئها بمرور الوقت مع الخال فارس وحضور باهت لأزواج الخالات والعمات. امتازت الشخوص النسائية بأدوار البطولة لما يتمتعن من مقدرة على قلب الحياة من جامدة إلى متوهجة رغم الحزن المستديم، وهذا ما جاء متناغماً مع طبيعة وتفكير سارة الصراف الإنسانة قبل الكاتبة وهي الناشطة التي تشغلها مشاكل المجتمع والنصوحة دائماً لبنات جنسها..
الرواية بانوراما لستة سنوات تحكي لوعة الحرب مع إيران، تلك الحرب كأنها طاحونة ابتلعت الناس والحجارة على مدى سنواتها الثمانية من دون كلل أو ملل. نقلت الصراف تلك التجربة بمنتهى الصدق. كانت عينًا ثلاثية الأبعاد من رصد الواقعة إلى نقلها صورة وصوتًا مع توزيع للشخوص حتى بدا النص سينمائيًا بامتياز.
تبدأ من سماع أصوات البكاء فجأة في إحدى الدور، منظر النعش الملفوف بالعلم العراقي، جلبة الناس في دار الشهيد، منظر يشلع القلب لوالدته وأخواته أو زوجته، موقع الأطفال بهكذا فاجعة، تائهين يرصدون ما يحصل، العدادة وهي تتصدر مجلس العزاء تنعي الميت بكلام يقطع نياط القلب، الكل يبكي إلاّ هي، مشاهد عاشها الجميع بلوعة ووجع.
يتغلغل الفزع في القارئ على شخوص الرواية حتى يجعله ينظر بنصف عين على عناوين الصفحات لئلا يرد موت أحدهم وتفقد الرواية أحد شخوصها الذين منحوه صفة القرابة معهم واعتاد حضورهم منذ أولى الصفحات.
الموت كان كالغول حاضراً، الحب كان حاضراً ايضاً بأنواعه، الحب المستحيل بين عايدة وعباس، حب يجعل المرأة في الظل والرجل في الضوء. حكاية ثائر وسندس، الزواج التقليدي الذي لا يخلو من منغصات أحد الأطراف، الحب الاول والقُبلة الأولى بين عشتار الصبية اليافعة وابن الخالة نزار الذي يسبقها خطوات في كل شيء، الحب التعويضي بين الخالة افتخار وزوجها الذي يصغرها بسنوات في زواج جاء على أعقاب طلاقها من زوجها الأول بسبب خيانته. مشاعر مختلفة لكل حالة أعطتها الصراف حقها في السرد والتعمق،
لم تغلب حكاية على أخرى، الكل تساوى في طرح مشاعره بمصداقية وخرج الجميع من الرواية كل راضياً بنصيبه.
الفضول يغلف القارئ وهو يتتبع عشتار بطلة الرواية سفيرة الطفولة وهي تحكي تفاصيل دقيقة عن حياتها، الكاتبة خلطت علينا الحقيقة مع الخيال وكأنها تمسك قطع لعبة الدومينو، أبدلت جد مع أخر واضافت هنا وبدلت هناك، هل ستقودنا الرواية لبعض الحقائق عن حياة جدها الأديب احمد حامد الصراف صاحب الصالون الثقافي في داره العامرة، نبحث بين الصفحات علناً نقف أمام العلامة أحمد سوسة بقامته و شعره الأبيض و تاريخه العريق، الباحث في حقول الري والهندسة والزراعة والجغرافية والتاريخ والحضارة، هل ستذكر لنا بعضاً من حياة والدتها الدكتورة عالية سوسة حين تدخل مـن باب المنزل في ظهيرة يوم عادي يسبقها صوت محرك سيارتها. أكتبي لنا يا سارة رواية أخرى ولتكن سيرة خالصة لحياتهم بنفس اللغة العذبة المفعمة بالصدق والتفاصيل ولا تنسي يا حفيدة العلماء ألبوم الصور الذي تكرهين فكرته لكنه سيحول السيرة من سمعت كل شيء إلى رأيت أيضاً.
الرواية نيستولوجيا عراقية خالصة نجحت في توثيق سنوات عراق الثمانينيات. هي رواية مخصصة لكل العراقيين وبالتحديد للمزروعين في المنافي، عاشوا ويلات الحرب وقدموا أعزاءهم شهداء للوطن، هاجروا أم هجّروا، عيونهم شاخصة على العراق، ولسانهم تعب من سرد كل الذكريات.